بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله.
أرجو أن تبينوا لي لماذا خُتِم على قلوب بعض الناس؟
المجيب فهد بن عبد الله الصقعبي
مستشار في مجلس الشورى
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فإن هذا السؤال من السؤلات الكبار، والمسائل العظمى التي ضل بها أقوام، بل ضلت بها أمم، ولذلك سأبسط القول فيه لكثرة السؤال عنه، وحاجة الناس إليه:
إن من أصول الدين وأركان الإيمان الإيمان بالقدر، ولعل من المناسب أن أجيب السائل بجوابين: مجمل ومفصل، أما المجمل فقد ختم الله على قلوب بعض الناس لأنهم لم يتبعوا رسله، ولم يؤمنوا بما أنزله، ولم يظلمهم سبحانه في ذلك، فإنه بيَّن لهم طريق الهدى وطريق الضلالة، وأرسل لهم رسله لكي يدلوهم على الحق والإيمان، ويحذروهم من الباطل والضلال، فأبوا الهدى وعادوا رسل الله وأولياءه، واستحبوا الكفر على الإيمان، فحقت عليهم الضلالة، وهو سبحانه لا يسأل عما يفعل جل في علاه.
وأما الجواب المفصل فأقول إن هذه المسألة مسألة عظيمة، ماجت فيها عقول كثير من الناس، وطاشت أفئدتهم، فكان الناس فيها طرفان ووسط، وأقرر أولاً في هذا الجواب مذهب أتباع الرسل الذين قالوا بالحق وأصابوا الحقيقة:
أثبت أتباع الرسل ما أثبته الله لنفسه في كتابه وعلى ألسنة رسله من كمال العلم وكمال القدرة والإرادة، فهو سبحانه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون على حد قوله سبحانه: "وهو بكل شيء عليم"، وقوله: "ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه" وهو سبحانه على كل شيء قدير، وفعال لما يريد كما في قوله: "وهو على كل شيء قدير" وقوله: "ويفعل الله ما يشاء"، وقوله: "فعال لما يريد".
هذا من جهة الخالق سبحانه.
وأما العبد فقد اتبعوا فيه ما بينه الله سبحانه في كتابه الكريم من إثبات الإرادة له، وأن له تصرف ومشيئة واختيار كما في قوله سبحانه: "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" وقوله سبحانه: "ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا"، وفي آية التكوير جمع سبحانه بين إثبات المشيئة له وأثبتها للعباد -ولا تعارض بين الأمرين على ما يأتي بيانه- قال سبحانه: "لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين"، فالحق أن للعبد مشيئة وإرادة هي تحت مشيئة الله وإرادته، وعلى ذلك يحاسب العبد على ما يعمل إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وعقلاء الناس من كل دين ومذهب يقرون بأن للإنسان مشيئة وقدرة وإرادة، فمن كفر بالله وآياته ورسله إنما كفر بإرادته ومشيئته لا يختلف العقلاء في ذلك إلا أن هذه الإرادة والمشيئة هي مما كتبه الله على العبد عدلاً منه سبحانه.
وإن سألت لم كتب الله على فلان الكفر والشقاء ولم يكتب له الهداية والسعادة؟ فالجواب أن الإيمان بالقدر من أركان الإيمان الستة، وقد قال صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن الإيمان: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره" فلا يقوم إيمان العبد إلا بالإيمان بالقدر خيره وشره، وفي الحديث المتفق على صحته عن علي رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة، فأخذ شيئا فجعل ينكت به الأرض، فقال: "ما منكم من أحد، إلا وقد كتب مقعده من النار، ومقعده من الجنة". قالوا: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل -وفي لفظ قالوا ففيم العمل-؟ قال: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فييسر لعمل أهل الشقاوة. ثم قرأ: "فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى". فأعرض عن جواب سؤالهم وأجابهم بما ينفعهم في دينهم ودنياهم؛ لأن هذا ليس إليهم ولم يكلفوا به، ولا ينبغي للعبد أن يسلسل فكره ويتعمق في القدر إلى أن يؤول به الحال لأن يقول: لم كتب الله الشقاء لفلان ولم يكتب له السعادة؟ لأن جواب هذا السؤال مما استأثر الله بعلمه، ولم يطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا.
والقدر سر الله في الأرض، وهذه مقولة قديمة أثرت عن عيسى عليه الصلاة والسلام أنه علمها للحواريين، وأثرت كذلك عن السلف كابن عباس وعلي بن أبي طالب وغيرهما رضي الله عن الجميع، وقال وهب بن منبه رحمه الله في القدر كلاما جليلا: " نظرت في القدر فتحيرت، ثم نظرت فيه فتحيرت، ووجدت أعلم الناس بالقدر أكفهم عنه وأجهل الناس بالقدر أنطقهم به". بل إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أمته عن الخوض في القدر في قوله: "إذا ذكر القدر فأمسكوا" وهذا حديث عظيم صحيح رواه جماعة من الصحابة. ولما سأل نوح ربه لمّا كتب الشقاء على ابنه بأنه من أهله كما في قوله سبحانه: "ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين" كان مما أجابه الله به (فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين) وتأمل أيها السائل في قوله سبحانه لنوح عليه السلام: (فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين) فإن فيه إشارة إلى القدر وترك السؤال عنه وعدم الخوض فيه، ومن هذا تعلم أن الجهل ليس مذموما على وجه الدوام، بل إنه مما يحمد في مواضعه وهذا أحدها.
وإني أوصي السائل بأن لا يجهد فكره، ولا ينهك عقله في القدر، وليسعنا من العلم به ما وسع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومما هو مشاهد أنه لا يمكن للعبد أن يدرك كل ما حوله من الأمور فكيف يريد أن يصل إلى أغوار القدر وأسراره.
لقد جعل الله أموراً وعلوماً في كونه وتقديره لا يمكن للعبد أن يدركها أو يدرك كنهها وماهيتها، ومن ذلك على سبيل المثال الروح ولذلك قال سبحانه لنبيه: "قل الروح من أمر ربي" ومثل ذلك القدر فإنه من أمر الله وسره، ويكفينا أن نتعلم منه معناه وأدلته ومراتبه وما في علمه فائدة لنا في ديننا ودنيانا، أما أن نعرف كل شيء فيه وأسباب مجريات الأحداث ولم كتب الله الشقاء على فلان أو فلان، فإن هذا ما لا نستطيعه ولا نقدر عليه، ولم يصل علم ذلك إلى ملك مقرب ولا نبي مرسل فيصل إليه من هو دونهم، وما أود التنبيه عليه أن لخفاء ذلك عن الخلق أثر عظيم يزيد في الإيمان ويوصل إلى بر الأمان ويورث الجنان ألا وهو التسليم والانقياد لله رب العالمين، فعلينا أن نسلم وننقاد ونسمع ونطيع، فإذا لم نسلم وننقاد لربنا فإننا نكون بذلك قد نازعنا الله في ملكه وتقديره وهو سبحانه لا يسأل عما يفعل، وعلينا أن نقف عند المواضع التي وقف عندها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نتجاوزها، ولو كان في السؤال عنه خيراً لسبقونا إليه.
ولنعتبر بغيرنا، ولنحذر أن نكون عبرة لغيرنا، وانظر يا أخي الكريم إلى أولئك الذين لم يسلموا ولم ينقادوا لله سبحانه في هذا الباب ضلوا وأضلوا وباؤوا بغضب من الله، فهاهم القدرية والجبرية لما خالفوا هدي الرسل وأتباعهم وخاضوا في القدر كتب عليهم الشقاء والضلال، ومما نتج عن ذلك أنه انتهى المطاف بالقدرية إلى القول بأن العبد مستقل بإرادته وقدرته، وليس لله في فعله مشيئة ولا خلق، بل إن غلاتهم أنكروا علم الله السابق، وأن أفعال العباد ناشئة منهم، ولا علم لله بها قبل فعلها.
وكذلك ضل الجبرية في هذا الباب، وهم على النقيض من القدرية، فذهبوا إلى أن العباد مجبورون على أعمالهم وأنهم لا خيار لهم بها، وأنهم كالريشة في مهب الريح، وهذا باب عظيم في الضلال، وقد استند عليه المشركون كما قال الله سبحانه عنهم "لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا"، يبررون بذلك الباطل الذي هم عليه.
والذي أوصل القدرية إلى إنكارهم المشيئة عن الله سبحانه ونفي العلم عنه، والجبرية إلى أن العباد مجبورون لا خيار لهم في أفعالهم، وخالفوا بذلك النصوص من الكتاب والسنة، هو بحثهم وتقصيهم في البحث عن جواب هذا السؤال، وعدم اكتفائهم ببيان الكتاب والسنة لهذا الأمر، ولم يسعهم ما وسع الصحابة رضي الله عنهم، ولم يقنعوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا ذكر القدر فأمسكوا" فلم يسلموا ولم ينقادوا؛ فضلوا وأضلوا وخابوا وخسروا.
أسأل الله أن يطمئن قلوبنا باليقين وأفئدتنا بالإيمان، وأن يعيننا على دنيانا، ويميتنا على الإسلام، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.